فصل: سنة ثمانين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر الظفر بالفرنج في بحر عيذاب:

في هذه السنة عمل البرنس صاحب الكرك أسطولاً، وفرغ منه بالكرك، ولم يبق إلا جمع قطعه بعضها إلى بعض، وحملها إلى بحر أيله، وجمعها في أسرع وقت.
وفرغ منها وشحنها بالمقاتلة وسيرها، فساروا في البحر، وافترقوا فرقتين: فرقة أقامت على حصن أيلة وهو للمسلمين يحصرونه، ويمنع أهله من ورود الماء، فنال أهله شدة شديدة وضيق عظيم؛ وأما الفرقة الثانية فإنهم ساروا نحو عيذاب، وأفسدوا في السواحل، ونهبوا، وأخذوا ما وجدوا من المراكب الإسلامية ومن فيها من التجار، وبتغوا الناس في بلادهم على حين غفلة منهم، فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجياً قط لا تاجراً ولا محارباً.
وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب ينوب عن أخيه صلاح الدين، فعمر أسطولاً وسيره، وفيه جمع كثير من المسلمين، ومقدمهم حسام الدين لؤلؤ، وهو متولي الأسطول بديار مصر، وكان مظفراً فيه، شجاعاً، كريماً، فسار لؤلؤ مجداً في طلبهم، فأبتدأ بالذين على أيلة فانقض عليهم انقضاض العقاب على صيدها، فقاتلهم، فقتل بعضهم، وأسر الباقي؛ وسار من وقته بعد الظفر يقص أثر الذين قصدوا عيذاب، فلم يرهم، وكانوا قد أغاروا على ما وجدوه بها، وقتلوا من لقوه عندها، وساروا إلى غير ذلك المرسى ليفعلوا كما فعلوا فيه؛ وكانوا عازمين على الدخول إلى الحجاز مكة والمدينة، حرسهما الله تعالى، وأخذ الحاج ومنعهم عن البيت الحرام، والدخول بعد ذلك إلى اليمن.
فلما وصل لؤلؤ إلى عيذاب ولم يرهم سار يقفو أثرهم، فبلغ رابغ وساحل الجوزاء وغيرهما، فأدركهم بساحل الجوزاء، فأوقع بهم هناك، فلما رأوا العطب وشاهدوا الهلاك خرجوا إلى البر، واعتصموا ببعض تلك الشعاب، فنزل لؤلؤ من مراكبه إليهم، وقاتلهم أشد قتال، وأخذ خيلاً من الأعراب الذين هناك، فركبها، وقاتلهم فساناً ورجالة، فظفر بهم وقتل أكثرهم، وأخذ الباقين أسرى، وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها عقوبة لمن رام إخافة حرم الله تعالى وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم، وعاد بالباقين إلى مصر، فقتلوا جميعهم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي عز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين، وكان ينوب عنه بدمشق، وهو ثقته من أهله، وكان اعتماده عليه أكثر من جميع أهله وامرأته، وكان شجاعاً كريماً، فاضلاً، عالماً بالأدب وغيره، وله شعر جيد من بين أشعار الملوك.
وكان ابتداء مرضه أنه خرج من دمشق إلى غزو الفرنج، فمرض، وعاد مريضاً، فمات، ووصل خبر موته إلى صلاح الدين، وقد عبر الفرات إلى الديار الجزرية، فأعاد شمس الدين محمد بن المقدم إلى دمشق ليكون مقدماً على عسكرها.
وفيها مات فخر الدولة أبو المظفر بن الحسن بن هبة الله بن المطلب. كان أبوه وزير الخليفة، وأخوه أستاذ الدار، فتصوف هو من زمن الصبا، وبنى مدرسة ورباطاً ببغداد عند عقد المصطنع، وبنى جامعاً بالجانب الغربي منها.
وفيها توفي الأمير أبو منصور هاشم ولد المستضيء بأمر الله ودفن عند أبيه.
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن علي بن الرفيعي من سواد واسط، وكان صالحاً ذا قبول عظيم عند الناس، وله من التلامذة ما لا يحصى. ثم دخلت:

.سنة تسع وسبعين وخمسمائة:

.ذكر ملك صلاح الدين آمد وتسليمها إلى صاحب الحصن:

قد ذكرنا نزول صلاح الدين بحرزم، تحت ماردين، فلم ير لطمعه وجهاً، وسار عنها إلى آمد، على طريق البارعية، وكان نور الدين محمد بن قرا أرسلان يطالبه في كل وقت بقصدها وأخذها وتسليمها إليه، على ما استقرت القاعدة بينهما، فوصل إلى آمد سابع عشر ذي الحجة من سنة ثمان وسبعين ونازلها، وأقام يحاصرها.
وكان المتولي لأمرها والحاكم فيها بهاء الدين بن نيسان؛ وكان صاحبها ليس له من الأمر شيء مع ابن نيسان، فلما نازلها صلاح الدين أساء ابن نيسان التدبير، ولم يعط الناس من الذخائر شيئاً، ولا فرق فيهم ديناراً ولا قوتاً، وقال لأهل البلد: قاتلوا عن نفوسكم. فقال له بعض أصحابه: ليس العدو بكافر حتى يقاتلوا عن نفوسهم. فلم يفعل شيئاً. وقاتلهم صلاح الدين، ونصب المجانيق، وزحف إليها، وهي الغاية في الحصانة والمنعة، بها وبسورها يضرب المثل، وابن نيسان على حاله من الشح بالمال، وتصرفه تصرف من ولت سعادته وأدبرت دولته؛ فلما رأى الناس ذلك منه تهاونوا بالقتال، وجنحوا إلى السلامة.
وكانت أيام ابن نيسان قد طالت، وثقلت على أهل البلد لسوء صنيعهم وملكتهم وتضييقهم عليهم في مكاسبهم، فالناس كارهون لهان محبون لانقراضها. وأمر صلاح الدين أن يكتب على السهام إلى أهل البلد يعدهم الخير والإحسان إن أطاعوه، ويتهددهم إن قاتلوه، فزادهم ذلك تقاعداً وتخاذلاً، وأحبوا ملكه وتركوا القتال؛ فوصل النقابون إلى السور، فنقبوه وعلقوه، فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك طمعوا في ابن نيسان واشتطوا في المطالب.
فحين صارت الحال كذلك أخرج ابن نيسان نساءه إلى القاضي الفاضل، وزير صلاح الدين، يسأله أن يأخذ له الأمان ولأهله وماله، وأن يؤخره ثلاثة أيام حتى ينقل ما له بالبلد من الأموال والذخائر؛ فسعى له الفاضل في ذلك، فأجابه صلاح الدين إليه، فسلم البلد في العشر الأول من المحرم هذه السنة، وأخرج خيمه إلى ظاهر البلد، ورام نقل ماله، فتعذر ذلك عليه لزوال حكمه عن أصحابه، واطراحهم أمره ونهيه، فأرسل إلى صلاح الدين يعرفه الحال، ويسأله مساعدته على ذلك، فأمده بالدواب والرجال، فنقل البعض وسرق البعض وانقضت الأيام الثلاثة قبل الفراغ فمنع من الباقي.
وكانت أبراج المدينة مملوءة من أنواع الذخائر، فتركها بحالها، ولو أخرج البعض منها لحفظ البلد وسائر نعمه وأمواله، لكن إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه؛ فلما تسلمها صلاح الدين سلمها نور الدين إلى صاحب الحصن، فقيل له قبل تسليمها: إن هذه المدينة فيها من الذخائر ما يزيد على ألف ألف دينار، فلو أخذت ذلك وأعطيته جندك وأصحابك، وسلمت البلد إليه فارغاً، لكان راضياً، فإنه لا يطمع في غيره. فامتنع من ذلك، وقال: ما كنت لأعطيه الأصل وأبخل بالفرع؛ فلما تسلم نور الدين البلد اصطنع دعوة عظيمة، ودعا إليها صلاح الدين وأمراءه، ولم يكن دخل البلد، وقدم له ولأصحابه من التحف والهدايا أشياء كثيرة.

.ذكر ملك صلاح الدين تل خالد وعين تاب من أعمال الشام:

لما فرغ صلاح الدين من أمر آمد سار إلى الشام، وقصد تل خالد، وهي من أعمال حلب، فحصرها ورماها بالمنجنيق، فنزل أهلها وطلبوا الأمان فأمنهم، وتسلمها في المحرم أيضاً.
ثم سار منها إلى عين تاب فحصرها وبها ناصر الدين محمد، وهو أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين محمود بن زنكي وصاحبه، وكان قد سلمها إليه نور الدين، فبقيت معه إلى الآن. فلما نازله صلاح الدين أرسل إليه يطلب أن يقر الحصن بيده وينزل إلى خدمته ويكون تحت حكمه وطاعته، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وحلف له عليه، فنزل إليه، وسار في خدمته؛ وكان أيضاً في المحرم من هذه السنة.

.ذكر وقعتين مع الفرنج في البحر والشام:

في هذه السنة، في العاشر من المحرم، سار أسطول المسلمين من مصر في البحر، فلقوا بُطسة فيها نحو ثلثمائة من الفرنج بالسلاح التام، ومعهم الأموال والسلاح إلى فرنج الساحل، فقاتلوهم، وصبير الفريقان، وكان الظفر للمسلمين، وأخذوا الفرنج أسرى، فقتلوا بعضهم وأبقوا بعضهم أسرى، وغنموا ما معهم وعادوا إلى مصر سالمين.
وفيها أيضاً سارت عصابة كبيرة من الفرنج من نواحي الدارم إلى نواحي مصر ليغيروا وينهبوا، فسمع بهم المسلمون، فخرجوا إليهم على طريق صدر وأيلة، فانتزح الفرنج من بين أيديهم فنزلوا بماء يقال له العسيلة، وسبقوا المسلمين إليه، فأتاهم المسلمون وهم عطاش قد أشرفوا على الهلاك، فرأوا الفرنج قد ملكوا الماء، فأنشأ الله سبحانه وتعالى، بلطفه سحابة عظيمة فمرطوا منها حتى رووا، وكان الزمان قيظاً، والحر شديداً في بر مهلك، فلما رأوا ذلك قويت نفوسهم، ووثقوا بنصر الله لهم، وقاتلوا الفرنج، فنصرهم الله عليهم فقتلوهم، ولم يسلم منهم إلا الشريد الفريد، وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودواب، وعادوا منصورين قاهرين بفضل الله.

.ذكر ملك صلاح الدين حلب:

وفي هذه السنة سار صلاح الدين من عين تاب إلى حلب، فنزل عليها في المحرم أيضاً، في الميدان الأخضر، وأقام به عدة أيام، ثم انتقل إلى جبل جوشن فنزل بأعلاه، وأظهر أنه يريد أن يبني مساكن له ولأصحابه وعساكره، وأقام عليها أياماً والقتال بين العسكرين كل يوم.
وكان صاحب حلب عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، ومعه العسكر النوري، وهم مجدون في القتال، فلما رأى كثرة الخرج، كأنه شح بالمال، فحضر يوماً عنده بعض أجناده، وطلبوا منه شيئاً، فاعتذر بقلة المال عنده، فقال له بعضهم: من يريد أن يحفظ مثل حلب يخرج الأموال، ولو باع حلي نسائه؛ فمال حينئذ إلى تسليم حلب وأخذ العوض منها، وأرسل مع الأمير طمان الياروقي، وكان يميل إلى صلاح الدين وهواه معه، فلهذا أرسله فقرر قاعدة الصلح على أن يسلم عماد الدين حلب إلى صلاح الدين ويأخذ عوضها سنجار، ونصيبين، والخابور، والرقة وسروج، وجرت اليمن على ذلك وباعها بأوكس الأثمان، أعطى حصناً مثل حلب، وأخذ عوضها قرى ومزارع، فنزل عنها عشر صفر، وتسلمها صلاح الدين، فعجب الناس كلهم من ذلك، وقبحوا ما أتى، حتى إن بعض عامة حلب أحضر اجانة وماء وناداه: أنت لا يصلح لك الملك، وإنما يصلح لك أن تغسل الثياب؛ وأسمعوه المكروه.
واستقر ملك صلاح الدين بملكها، وكان مزلزلاً، فثبت قدمه بتسليمها وكان على شفا جرف هار، وإذا أراد الله أمراً فلا مرد له.
وسار عماد الدين إلى البلاد التي أعطيها عوضاً عن حلب فتسلمها، وأخذ صلاح الدين حلب، واستقر الحال بينهما: إن عماد الدين يحضر في خدمة صلاح الدين بنفسه وعسكره، إذا استدعاه لا يحتج بحجة؛ ومن الاتفاقات العجيبة أن محيي الدين بن الزكي، قاضي دمشق، مدح صلاح الدين بقصيدة منها:
وفتحكم حلباً بالسيف في صفر ** مبشر بفتوح القدس في رجب

فوافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، على ما ذكرناه إن شاء الله تعالى.
ومما كتبه القاضي الفاضل في المعنى عن صلاح الدين: فأعطيناه عن حلب كذا وكذا، وهو صرف على الحقيقة أخذنا فيه الدنانير وأعطيناه الدراهم، ونزلنا عن القرى، وأحرزنا العواصم.
وكتب أيضاً: أعطيناه ما لم يخرج عن اليد، يعني أنه متى شاء أخذه لعدم حصانته.
وكان ي جملة من قتل على حلب تاج الملوك بوري، أخو صلاح الدين الأصغر، وكان فارساً شجاعاً، كريماً حليماً، جامعاً لخصال الخير، ومحاسن الأخلاق، طعن في ركبته فانفكت، فمات منعها بعد أن استقر الصلح بين عماد الدين وصلاح الدين على تسليم حلب قبل أن يدخلها صلاح الدين، فلما استقر أمر الصلح حضر صلاح الدين عند أخيه يعوده، وقال له: هذه حلب قد أخذناها، وهي لك؛ فقال: ذلك لو كان وأنا حي. ووالله لقد أخذتها غالية حيث تفقد مثلي. فبكى صلاح الدين وأبكى.
ولما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين، وقد عمل له دعوة احتفل فيها، فبينما هم في سرور إذ جاء إنسان فأسر إلى صلاح الدين بموت أخيه، فلم يظهر هلعاً، ولا جزعاً، وأمر بتجهيزه سراً، ولم يعلم عماد الدين ومن معه في الدعوة، واحتمل الحزن وحده لئلا يتنكر ما هم فيه، وكان هذا من الصبر الجميل.

.ذكر فتح صلاح الدين حارم:

لما ملك صلاح الدين حلب كان بقلعة حارم، وهي من أعمال حلب، بعض المماليك النورية، واسمه سرحك، وولاه عليها الملك الصالح عماد الدين، فامتنع من تسليمها إلى صلاح الدين، فراسله صلاح الدين في التسليم، وقال له: اطلب من الإقطاع ما أردت؛ ووعده الإحسان، فاشتط في الطلب، وترددت الرسل بينهما، فراسل الفرنج ليحتمي بهم، فسمع من معه من الأجناد أنه يراسل الفرنج، فخافوا أن يسلمها إليهم، فوثبوا عليه وقبضوه وحبسوه، وراسلوا صلاح الدين يطلبون منه الأمان والإنعام، فأجابهم إلى ما طلبوا، وسلموا إليه الحصن فرتب به دزداراً بعض خواصه.
وأما باقي قلاع حلب، فإن صلاح الدين أقر عين تاب بيد صاحبها، كما تقدم، وأقطع تل خالد لأمير يقال له داروم الباروقي، وهو صاحب تل باشر.
وأما قلعة إعزاز، فإن عماد الدين إسماعيل كان قد خربها، فأقطعها صلاح الدين لأمير يقال له دلدرم سلمان بن جندر، فعمرها. وأقام صلاح الدين بحلب إلى أن فرغ من تقرير قواعدها وأحوالها وديوانها، وأقطع أعمالها، وأرسل منها فجمع العساكر من جميع بلاده.

.ذكر القبض على مجاهد الدين وما حصل من الضرر بذلك:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، قبض عز الدين مسعود، صاحب الموصل، على نائبه مجاهد الدين قايماز، وكان إليه الحكم في جميع البلاد، واتبع في ذلك هوى من أراد المصلحة لنفسه، ولم ينظر في مضرة صاحبه.
وكان الذي أشار بذلك عز الدين محمود زلفندار، وشرف الدين أحمد ابن أبي الخير الذي كان أبوه صاحب الغراف، وهما من أكابر الأمراء، فلما أراد القبض عليه لم يقدم على ذلك لقوة مجاهد الدين، فأظهر أنه مريض، وانقطع عن الركوب عدة أيام، فدخل إليه مجاهد الدين وحده، وكان خصياً لا يمتنع من الخول على النساء، فلما دخل عليه قبض عليه، وركب لوقته إلى القلعة، فاحتوى على الأموال التي لمجاهد الدين وخزائنه، وولى زلفندار قلعة الموصل بعد مجاهد الدين، وجعل ابن صاحب الغراف أمير حاجب وحكمهما في دولته.
وكان تحت حكم مجاهد الدين حينئذ إربل وأعمالها، ومعه فيها زين الدين يوسف بن زين الدين علي، وهو صبي صغير ليس له من الحكم شيء والحكم والعسكر إلى مجاهد الدين، وتحت حكمه أيضاً جزيرة ابن عمر، وهي لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود، وهو أيضاً صبي، والحكم والنواب والعسكر لمجاهد الدين، وبيده أيضاً شهرزور وأعمالها، ونوابه فيها، ودقوقا، ونائبه فيها، وقلعة عقر الحميدية، ونائبه فيها، ولم يبق لعز الدين مسعود بعد أن أخذ صلاح الدين البلاد الجزرية سوى الموصل وقلعتها بيد مجاهد الدين، وهو على الحقيقة الملك واسمه لعز الدين، فلما قبض عليه امتنع صاحب إربل من طاعة عز الدين، واستبد، وكذلك أيضاً صاحب جزيرة ابن عمر، وأرسل الخليفة إلى دقوقا فحصرها وأخذها، ولم يحصل لعز الدين مسعود غير شهر زور والعقر، وصارت إربل والجزيرة أضر شيء على صاحب الموصل، وأرسل صاحبها إلى صلاح الدين بالطاعة له، والكون في خدمته.
وكان الخليفة الناصر لدين الله قد أرسل صدر الدين شيخ الشيوخ، ومعه بشير الخادم الخاص، إلى صلاح الدين في الصلح مع عز الدين، صاحب الموصل، وسير عز الدين معه القاضي محيي الدين أبا حامد بن الشهرزوري في المعنى، فأجاب صلاح الدين إلى ذلك وقال: ليس لكم مع الجزيرة وإربل حديث؛ فامتنع محيي الدين عن ذلك وقال: هما لنا؛ فلم يجب صلاح الدين إلى الصلح إلا بأن تكون إربل والجزيرة معه، فلم يتم أمره، وقوي طمع صلاح الدين في الموصل بقبض مجاهد الدين، فلما رأى صاحب الموصل الضرر بقبض مجاهد الدين قبض على شرف الدين أحمد بن صاحب الغراف وزلفندار، عقوبة لهما، ثم أخرج مجاهد الدين، على ما نذكره إن شاء الله.

.ذكر غزو بيسان:

لما فرغ صلاح الدين من أمر حلب جعل فيها ولده الملك الظاهر غازي، وهو صبي، وجعل معه الأمير سيف الدين يازكج، وكان أكبر الأمراء الأسدية، وسار إلى دمشق، وتجهز للغزو، ومعه عساكر الشام والجزيرة، وديار بكر، وسار إلى بلد الفرنج، فعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من السنة، فرأى أهل تلك النواحي فقد فارقوها خوفاً، فقصد بيسان فأحرقها وخربها، وأغار على ما هناك، فاجتمع الفرنج، وجاءوا إلى قبالته، فحين رأوا كثرة عساكره لم يقدموا عليه، فأقام عليهم، وقد استندوا إلى جبل هناك، وخندقوا عليهم، فأحاط بهم، وعساكر الإسلام ترميهم بالسهام، وتناوشهم القتال، فلم يخرجوا وأقاموا كذلك خمسة أيام، وعاد المسلمون عنهم سابع عشر الشهر، لعل الفرنج يطمعون ويخرجون، فيستدرجونهم ليبلغوا منهم غرضاً، فلما رأى الفرنج ذلك لم يطمعوا أنفسهم في غير السلامة.
وأغار المسلمون على تلك الأعمال يميناً وشمالاً، ووصلوا إلى ما لم يكونوا يطمعون في الوصول إليه والإقدام عليه، فلما كثرت الغنائم معهم رأوا العود إلى بلادهم بما غنموا مع الظفر أولى، فعادوا إلى بلادهم على عزم الغزو.

.ذكر غزو الكرك وملك العادل حلب:

لما عاد صلاح الدين والمسلمون من غزوة بيسان تجهزوا غزو الكرك، فسار إليه في العساكر، وكتب إلى أخيه العادل أبي بكر بن أيوب، وهو نائبه بمصر، يأمره بالخروج بجميع العساكر إلى الكرك. وكان العادل قد أرسل إلى صلاح الدين يطلب منه مدينة حلب وقلعتها، فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يخرج معه بأهله وماله، فوصل صلاح الدين إلى الكرك في رجب، ووافاه أخوه العادل في العسكر المصري، وكثر جمعه، وتمكن من حصره، وصعد المسلمون إلى ربضه وملكه، وحصر الحصن من الربض، وتحكم عليه في القتال؛ ونصب عليه سبعة مجانيق لا تزال ترمي بالحجارة ليلاً ونهاراً.
وكان صلاح الدين يظن أن الفرنج لا يمكنونه من حصر الكرك، وأنهم يبذلون جهدهم في رده عنهم، فلم يستصحب معه من آلاف الحصار ما يكفي لمثل ذلك الحصن العظيم والمعقل المنيع، فرحل عنه منتصف شعبان، وسير تقي الدين ابن أخيه إلى مصر نائباً عنه ليتولى ما كان أخوه العادل يتولاه، واستصحب أخاه العادل معه إلى دمشق، وأعطاه مدينة حلب وقلعتها وأعمالها، ومدينة منبج وما يتعلق بها، وسيره إليها في شهر رمضان من السنة، وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة فتح الرباط الذي بنته أم الخليفة بالمأمونية.
وفيها، في ذي الحجة، توفي مكرم بن بختيار أبو الخير الزاهد ببغداد. روى الحديث، وكان كثير البكاء.
وفي جمادى الآخرة توفي محمد بن بختيار بن عبد الله أبو عبد الله المولد الشاعر ويعرف بالأبله، فمن جملة شعره:
أرق دمعي لا بل أراق دمي ** ظلماً بظلم من ريقه الشبم

ذو قامة كالقضيب ناضرة ** وناظر من سقامه سقمي

حصلت من وعده على أصدق ال ** وعد ومن وصله على التهم ثم دخلت:

.سنة ثمانين وخمسمائة:

.ذكر إطلاق مجاهد الدين من الحبس وانهزام العجم:

في هذه السنة، في المحرم، أطلق أتابك عز الدين، صاحب الموصل، مجاهد الدين قايماز من الحبس بشفاعة شمس الدين البهلوان، صاحب همذان، وبلاد الجبل، وسيره إلى البهلوان وأخيه قزل يستنجدهما على صلاح الدين، فسار إلى قزل أولاً، وهو صاحب أذربيجان، فلم يمكنه من المضي إلى البهلوان، وقال: ما تختاره أنا أفعله؛ وجهز معه عسكراً كثيراً نحو ثلاثة آلاف فارس، وساروا نحو إربل ليحصروها، فلما قاربوها أفسدوا في البلاد وخربوها، ونهبوا وسبوا، وأخذوا النساء قهراً، ولم يقدر مجاهد الدين على منعهم، فسار إليهم زين الدين يوسف، صاحب إربل، في عسكره، فلقيهم وهم متفرقون في القرى ينهبون ويحرقون، فانتهز الفرصة فيهم بتفرقهم، وألقى بنفسه وعسكره على أول من لقيه منهم، فهزمهم وتمت الهزيمة على الجميع، وغنم الأربليون أموالهم ودوابهم وسلاحهم، وعاد العجم إلى بلادهم منهزمين، وعاد صاحب إربل إلى بلده مظفراً غانماً، وعاد مجاهد الدين إلى الموصل، فكان يحكي: إنني ما زلت أنتظر العقوبة من الله تعالى على سوء أفعال العجم، فإنني رأيت منهم ما لم أكن أظنه يفعله مسلم بمسلم، وكنت أنهاهم فلا يسمعون، حتى كان من الهزيمة ما كان.

.ذكر وفاة يوسف بن عبد المؤمن وولاية ابنه يعقوب:

في هذه السنة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن إلى بلاد الأندلس، وجاز البحر إليها في جمع عظيم من عساكر المغرب، فإنه جمع وحشد الفارس والراجل؛ فلما عبر الخليج قصد غربي البلاد، فحصر مدينة شنترين، وهي للفرنج، شهراً، فأصابه بها مرض فمات منه في ربيع الأول، وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية من الأندلس.
وكانت مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة وشهراً، ومات عن غير وصية بالملك لأحد من أولاده، فاتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليك ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن فملكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من العدو؛ فقام في ذلك أحسن قيام، وأقام راية الجهاد، وأحسن السيرة في الناس. وكان ديناً مقيماً للحدود في الخاص والعام، فاستقامت له الدولة وانقادت إليه بأسرها مع سعة أقطارها، ورتب ثغور الأندلس وشحنها بالرجال، ورتب المقاتلة في سائر بلادها، وأصلح أحوالها وعاد إلى مراكش.
وكان أبوه يوسف حسن السيرة، وكان طرقه ألين من طريق أبيه مع الناس، يحب العلماء ويقربهم ويشاورهم، وهم أهل خدمته وخاصته. وأحبه الناس ومالوا إليه، وأطاعه من البلاد ما امتنع على أبيه، وسلك في جباية الأموال ما كان أبوه يأخذه، ولم يتعده إلى غيره، واستقامت له البلاد بحسن فعله مع أهلها، ولم يزل كذلك إلى أن توفي، رحمه الله تعالى.

.ذكر غزو صلاح الدين الكرك:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، سار صلاح الدين من دمشق يريد الغزو، وجمع عساكره، فأتته من كل ناحية، ومن أتاه نور الدين محمد بن قرا أرسلان، صاحب الحصن. وكتب إلى مصر ليحضر عسكرها عنده على الكرك، فنازل الكرك وحصره، وضيق على من به، وأمر بنصب المجانيق على ربضه، واشتد القتال، فملك المسلمون الربض، وبقي الحصن، وهو الربض على سطح جبل واحد، إلا أن بينهما خندقاً عظيماً عمقه نحو ستين ذراعاً، فأمر صلاح الدين بإلقاء الأحجار والتراب فيه ليطمه، فلم يقدر أحد على الدنو منه لكثرة الرمي عليهم بالسهام من الجرخ والقوس والأحجار من المجانيق، فأمر أن يبني بالأخشاب واللبن ما يمكن الرجال يمشون تحته إلى الخندق ولا يصل إليهم شيء من السهام والأحجار، ففعل ذلك، فصاروا يمشون تحت السقائف ويلقون في الخندق ما يطمه، ومجانيق المسلمين مع ذلك ترمي الحصن ليلاً نهاراً.
وأرسل من فيه من الفرنج إلى ملكهم وفرسانهم يستمدونهم ويعرفونهم عجزهم وضعفهم عن حفظ الحصن، فاجتمعت الفرنج عن آخرها، وساروا إلى نجدتهم عجلين، فلما بلغ الخبر بمسيرهم إلى صلاح الدين رحل عن الكرك إلى طرقهم ليلقاهم ويصاففهم، ويعود بعد أن يهزمهم إلى الكرك، فقرب منهم وخيم ونزل، ولم يمكنه الدنو منهم لخشونة الأرض وصعوبة المسلك إليهم وضيقه، فأقام أياماً ينتظر خروجهم من ذلك المكان ليتمكن منهم، فلم يبرحوا منه خوفاً على نفوسهم، فلما رأى ذلك رحل عنهم عدة فراسخ، وجعل بإزائهم من يعلمه بمسيرهم، فساروا ليلاً إلى الكرك، فلما علم صلاح الدين ذلك علم أنه لا يتمكن حينئذ ولا يبلغ غرضه، فسار إلى مدينة نابلس، ونهب كل ما على طريقه من البلاد؛ فلما وصل إلى نابلس أحرقها وخربها ونهبها، وقتل فيها وأسر من المسلمين، فاستنقذهم، ورحل إلى جينين فنهبها وخربها، وعاد إلى دمشق ونهب ما على طريه وخربه، وبث السرايا في طريقه يميناً وشمالاً يغنون ويخربون، ووصل إلى دمشق.